بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
..... نتابع على بركة الله تفسير سورة البقره
وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعي الاسدي عن أمير المؤمنين على (عليه السلام) في معنى الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية، قال: وما أقول يا امير المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث.
أقول: ومعنى الرواية واضح مما بيناه آنفا.
وفي شرح العقائد للمفيد قال: وقد روى عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) إنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى؟ فقال (عليه السلام): لو كان خالقا لها لما تبرا منها وقد قال سبحانه: إن الله برئ من المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرا من شركهم وقبائحهم.
اقول للافعال جهتان: جهة ثبوت ووجود، وجهة الانتساب إلى الفاعل، وهذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الافعال باأنها طاعة أو معصية أو حسنه أو سيئة فإن النكاح والزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت والتحقق، وإنما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لامر الله تعالى، والزنا فاقد للموافقة المذكورة، وكذا قتل النفس بالنفس وقتل النفس بغير نفس، وضرب اليتيم تأديبا وضربه ظلما، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الامر أو الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها، وقد قال تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر - 62، والفعل شئ بثبوته ووجوده، وقد قال (عليه السلام): (كل ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله الحديث) ثم قال تعالى: (الذي أحسن كل شئ خلقه) السجدة - 7، فتبين أن كل شئ كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق حسن، فالخلقة والحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلا، ثم إنه تعالى سمى بعض الافعال سيئة فقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) الانعام - 160، وهي المعاصي التي يفعلها الانسان بدليل المجازاة، وعلمنا بذلك أنها من حيث أنها معاص عدمية غير مخلوقة وإلا كانت حسنة، وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) الحديد - 22، وقال: (ما أصاب من مصيبة
إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) التغابن - 11، وقال: (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى - 30، وقال: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) النساء - 79، وقال: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) النساء - 78، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الانسان المنعم بنعمة من نعم الله كالامن والسلامة والصحة والغنى يعد واجدا فإذا فقدها لنزول نازلة وإصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لانها مقارنة لفقد ما وعدم ما، فكل نازلة فهى من الله وليست من هذه الجهة سيئة وإنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الانسان وهو واجد، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة وإن كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالاذن فيه ونحو ذلك.
وفي قرب الاسناد عن البزنطي، قال: قلت: للرضا (عليه السلام) إن أصحابنا بعضهم يقول: بالجبر، وبعضهم بالاستطاعة فقال لي: (أكتب، قال الله تبارك وتعالى يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون، فقد نظمت لك كل شئ تريد الحديث) وهو أو ما يقربه مروي بطرق عامية وخاصية اخرى وبالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الافعال هي المعاصي من جهة أنها معاص خاصة، وبذلك يعلم معنى قوله (عليه السلام) في الرواية السابقة، لو كان خالقا لها لما تبرأ منها إلى قوله وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم الحديث.
وفي التوحيد: عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) (قالا: إن الله عز وجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون) قال: فسئلا (عليها السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا نعم أوسع مما بين السماء والارض
وفي التوحيد عن محمد بن عجلان، قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام) فوض الله الامر إلى العباد؟ قال: (الله أكرم من أن يفوض إليهم) قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال: (الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه).
وفي التوحيد أيضا عن مهزم، قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) أخبرني عما اختلف فيه من خلفك من موالينا، قال: قلت: في الجبر والتفويض؟ قال: فاسألني قلت: أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: (الله أقهر لهم من ذلك) قلت: ففوض إليهم؟ قال الله أقدر عليهم من ذلك، قال قلت فأي شئ هذا، أصلحك الله؟ قال: فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال: (لو أجبتك فيه لكفرت).
اقول: قوله (عليه السلام): الله أقهر لهم من ذلك، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة، وأقهر منه وأقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى إختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته وإختياره إو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر.
وفي التوحيد أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال: (رسول الله: من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية الله فقد أخرج الله من سلطانه) وفي الطرائف: روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر، فكتب إليه الحسن البصري أن احسن ما انتهى إلي ما سمعت أمير المؤمنين علي بن ابى طالب (عليه السلام)، إنه قال: أتظن ان الذي نهاك دهاك؟ وإنما دهاك أسفلك وأعلاك، والله برئ من ذاك).
وكتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (لو كان الزور في الاصل محتوما لكان المزور في القصاص مظلوما).
وكتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق؟ وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر
قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (كلما استغفرت الله منه فهو منك، وكلما حمدت الله عليه فهو منه) فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال: لقد أخذوها من عين صافية.
وفي الطرائف أيضا روى أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن القضاء والقدر فقال: (ما أستطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله) يقول الله للعبد: لم عصيت، لم فسقت، لم شربت الخمر، لم زنيت؟ فهذا فعل العبد، ولا يقول له لم مرضت، لم قصرت، لم إبيضضت، لم إسوددت؟ لانه من فعل الله تعالى.
وفي النهج سئل (عليه السلام) عن التوحيد والعدل فقال: (التوحيد أن لا تتو همه، والعدل أن لا تتهمه).
اقول: والاخبار فيما مر متكاثرة جدا غير أن الذي نقلناه حاو لمعاني ما تركناه ولئن تدبرت فيما تقدم من الاخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال.
منها: الاستدلال بنفس الامر والنهي والعقاب و الثواب وأمثالها على تحقق الاختيار من غير جبر ولا تفويض، كما في الخبر المنقول عن امير المؤمنين علي (عليه السلام) فيما أجاب به الشيخ، وهو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى.
ومنها: الاستدلال بوقوع امور في القرآن لاتصدق لو صدق جبر أو تفويض، كقوله تعالى: (لله ملك السموات والارض وقوله: (وما ربك بظلام للعبيد)، وقوله تعالى: (قل ان الله لا يأمر بالفحشاء الآية، ويمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا وأما إذا نسب إليه تعالى فلا يسمى فاحشة ولا ظلما فلا يقع منه تعالى فاحشة ولا ظلم، ولكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا والله أمرنا بهذا قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) الآية، فالاشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجها إليه سواء سمي فحشاء أو لم يسم.
ومنها: الاستدلال من جهة الصفات وهو أن الله تسمى بأسماء حسنى وإتصف بصفات عليا لا تصدق ولا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فانه تعالى قهار قادر كريم رحيم، وهذه صفات لا تستقر معانيها إلا عند ما يكون وجود كل شئ منه تعالى ونقص كل شئ وفساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد.
ومنها: الاستدلال بمثل الاستغفار وعروض اللوم فان الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفاره ولو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل وفعل في عروض اللوم على بعضها وعدم عروضه على بعض آخر.
وهيهنا روايات أخر مروية فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الاضلال والطبع والاغواء وغير ذلك.
ففى العيون عن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) قال (عليه السلام) (إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم إنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة و اللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم).
وفي العيون ايضا عنه (عليه السلام) في قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم، قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا.
وفي المجمع عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: إن الله لا يستحي الآية، هذا القول من الله رد على من زعم إن الله تبارك وتعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم الحديث، أقول: قد مر بيان معناها.
,,,,,,,,,,,,,,,,, يتبع ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,