بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
..... نتابع على بركة الله تفسير سورة البقره
محصل الكلام السابق أن كلامه تعالى موضوع على وجهين:
أحدهما: وجه المجازاة بالثواب والعقاب، وعليه عدد جم من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الانسان من خير أو شر كجنة أو نار أنما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل.
وثانيهما: وجه تجسم الاعمال وعليه عدة اخرى من الآيات، وهي تدل على أن الاعمال تهيئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا هي التي سيطلع عليه الانسان يوم يكشف عن ساق.
وإياك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان فإن الحقائق إنما تقرب إلى الافهام بالامثال المضروبة كما ينص على ذلك القرآن.
وقوله تعالى: إلا الفاسقين، الفسق كما قيل من الالفاظ التي أبدع القرآن إستعمالها في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها وجلدها ولذلك فسر بعده بقوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) الآية، والنقض إنما يكون عن إبرام، ولذلك أيضا وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين والانسان إنما يخسر فيما ملكه بوجه، قال تعالى: (إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) الشورى - 45، وإياك أن تتلقى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الاشقياء مثل المقربين والمخلصين والمخبتين والصالحين والمطهرين وغيرهم، ومثل الظالمين والفاسقين والخاسرين والغاوين والضالين وأمثالها أوصافا مبتذلة أو مأخوذة لمجرد تزيين اللفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه تعالى فتعطف الجميع على واد واحد، وتأخذها هجائا عاميا وحديثا ساذجا سوقيا بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحية ومقامات معنوية في صراطي السعادة والشقاوة، كل واحد منها في نفسة مبدأ لآثار خاصة ومنشأ لاحكام مخصوصة معينة، كما أن مراتب السن وخصوصيات القوى وأوضاع الخلقة في الانسان كل منها منشأ لاحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشأه ومحتده، ولئن تدبرت في مواردها من كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت صدق ما ادعيناه.
بحث الجبر والتفويض وإعلم: أن بيانه تعالى أن الاضلال إنما يتعلق بالفاسقين يشرح كيفية تأثيره
تعالى في أعمال العباد ونتائجها (وهو الذي يراد حله في بحث الجبر والتفويض).
بيان ذلك: أنه تعالى قال: (لله ما في السموات وما في الارض) البقرة - 284، وقال: (له ملك السموات والارض) الحديد - 5، وقال: (له الملك وله الحمد) التغابن - 1، فأثبت فيها وفي نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنه تعالى مالك على الاطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه ولا يملك على بعض الوجوه، كما أن الفرد من الانسان يملك عبدا أو شيئا آخر فيما يوافق تصرفاته أنظار العقلاء، وأما التصرفات السفهية فلا يملكها، وكذا العالم مملوك لله تعالى مملوكية على الاطلاق، لا مثل مملوكية بعض أجزاء العالم لنا حيث أن ملكنا ناقص إنما يصحح بعض التصرفات لا جميعها، فان الانسان المالك لحمار مثلا إنما يملك منه أن يتصرف فيه بالحمل والركوب مثلا وإما أن يقتلة عطشا أو جوعا أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك، أي كل مالكية في هذا الاجتماع الانساني مالكية ضعيفة إنما تصحح بعض التصرفات المتصورة في العين المملوكة لا كل تصرف ممكن، وهذا بخلاف ملكه تعالى للاشياء فإنها ليس لها من دون الله تعالى من رب يملكها وهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا فكل تصرف متصور فيها فهو له تعالى، فأي تصرف تصرف به في عباده وخلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحا ولا ذما ولا لوما في ذلك، إذ التصرف من بين التصرفات انما يستقبح ويذم عليه فيما لا يملك المتصرف ذلك لان العقلاء لا يرون له ذلك، فملك هذا المتصرف محدود مصروف إلى التصرفات الجائزة عند العقل، وأما هو تعالى فكل تصرف تصرف به فهو تصرف من مالك وتصرف في مملوك فلا قبح ولا ذم ولا غير ذلك وقد أيد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أي تصرف في ملكه إلا ما يشائه أو يأذن فيه وهو السائل المحاسب دون المسؤل المأخوذ، فقال تعالى: (من ذاالذي يشفع عنده إلا بإذنه) البقرة - 255، وقال تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) يونس - 3، وقال تعالى: (ولو شاء الله لهدى الناس جميعا) الرعد - 33، وقال: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) النحل - 93، وقال تعالى: (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله) الدهر - 30، وقال تعالى (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) الانبياء - 23، فالله هو المتصرف
الفاعل في ملكه وليس لشئ غيره شئ من ذلك إلا بإذنه ومشيته، فهذا ما يقتضيه ربوبيته.
ثم انا نرى أنه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع وجرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الانساني، من إستحسان الحسن والمدح والشكر عليه وإستقباح القبيح والذم عليه كما قال تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) البقرة - 271، وقال: (بئس الاسم الفسوق) الحجرات - 11، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الانسان ومفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الانسان فقال تعالى: (إذا دعاكم لما يحييكم) الانفال - 24، وقال تعالى: (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) الصف - 11، وقال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان (إلى أن قال) وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغى) النحل - 90، وقال تعالى: (إن الله لا يأمر بالفحشاء) الاعراف - 28، والآيات في ذلك كثيرة، وفي ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعني أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذم وغير ذلك والاحكام المتعلقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما انها هي الاساس للاحكام العامة العقلائية كذلك الاحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعى فيها ذلك، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض ومصالح عقلائية ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للاحكام والقوانين، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الاحسان بالاحسان والاساءة بالاساءة أن شاؤا فهذه كلها معللة بالمصالح والاغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الاوامر العقلائية ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، وكل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيرية والشرية وبمقدار يناسب وكيف يناسب، ومن احكامهم أن الامر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل وأيضا إن الجزاء الحسن أو السئ أعنى الثواب والعقاب لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري اللهم إلا فيما كان الخروج عن الاختيار والوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحا، ولا يبالون بقصة إضطراره.
فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزا المطيع بالجنة والعاصي بالنار الا جزافا في مورد المطيع، وظلما في مورد العاصي، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجح وهو قبيح عندهم ايضا ولا حجة في قبيح وقد قال تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء - 165، وقال تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة الانفال - 42، فقد اتضح بالبيان السابق أمور: أحدهما: أن التشريع ليس مبنيا على أساس الاجبار في الافعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أولا، وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا، والمكلفون انما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختيارا.
ثانيها: أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الاضلال والخدعة والمكر والامداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الانسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح والمنكر، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الاضلال وشعبه وأنواعه، وليس كل إضلال حتى الاضلال البدوي وعلى سبيل الاغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه، بل الثابت له الاضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء إختياره ذلك كما قال تعالى: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الاية) البقرة - 26، وقال: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف - 5، وقال تعالى: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) المؤمن - 34.
ثالثها: أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث أنها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي وسيجئ لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى.
رابعها: أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للامر والنهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئا، مضافا إلى أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, يتبع ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,