بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
..... نتابع على بركة الله تفسير سورة البقره
فهيهنا جهات ثلث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربما أحاط إنسان بلغة من اللغات فلا يشذ عن علمه لفظ لكنه لا يقدر على التهجي والتكلم، وربما تمهر الانسان في البيان وسرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف والمطالب فيعجز عن التكلم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه، وربما تبحر الانسان في سلسلة من المعارف والمعلومات ولطفت قريحته ورقت فطرته لكن لا يقدر على الافصاح عن ما في ضميره، وعى عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى ومنظره البهيج.
فهذه امور ثلاثة: أولها راجع إلى وضع الانسان بقريحته الاجتماعية، والثانى والثالث راجعان إلى نوع من لطف القوة المدركة، ومن البين أن إدراك القوى المدركة منا محدودة مقدرة لا نقدر على الاحاطه بتفاصيل الحوادث الخارجية والامور الواقعية بجميع روابطها، فلسنا على أمن من الخطأ قط في وقت من الاوقات، ومع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضا يوجب الاختلاف التدريجي في معلوماتنا أخذا من النقص إلى الكمال، فأي خطيب اشدق واي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أول أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره؟ فلو فرضنا كلاما إنسانيا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطأ لفرض عدم إطلاع متكلمه بجميع أجزاء الواقع وشرائطه (أولا) ولم يكن على حد كلامه السابق ولا على زنة كلامه اللاحق بل ولا أوله يساوي آخره وإن لم نشعر بذلك لدقة الامر، لكن حكم التحول والتكامل عام (ثانيا)، وعلي هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه (وجد الهزل هو القول بغير علم محيط) ولا إختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريا، وهو الذي يفيده القرآن بقوله: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا الآية) النساء - 82، وقوله تعالى: (والسماء ذات الرجع والارض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل) الطارق - 14.
انظر إلى موضع القسم بالسماء والارض المتغيرتين والمعنى المقسم به في عدم تغيره واتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله (وسيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل)، وقوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح
محفوظ) البروج - 22، وقوله تعالى: (والكتاب المبين، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، وإنه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم) الزخرف - 4.
وقوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم.
إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة - 79، فهذه الآيات ونظائرها تحكى عن إتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيرة ولا متغير ما يتكي عليها.
إذا عرفت ما مر علمت أن إستناد وضع اللغة إلى الانسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الانسان الواضع له، وليس ذلك إلا كالقول بان القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها وواضع النرد والشطرنج يجب أن يكون امهر من يلعب بهما ومخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها.
فقد تبين من ذلك كله أن البلاغة التامة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللفظ للمعني ومن جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه الصورة الذهنية.
أما اللفظ فان يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقا للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الاعجاز.
وأما المعنى فان يكون في صحته وصدقه معتمدا على الخارج الواقع بحيث لا يزول عما هو عليه من الحقيقة، وهذه المرتبة هي التي يتكى عليها المرتبة السابقة، فكم من هزل بليغ في هزليته لكنه لا يقاوم الجد، وكم من كلام بليغ مبنى على الجهالة لكنه لا يعارض ولا يسعه أن يعارض الحكمة، والكلام الجامع بين عذوبة اللفظ وجزالة الاسلوب وبلاغة المعنى وحقيقة الواقع هو ارقى الكلام.
وإذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة ومنطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الاخر ولم تكذبه فإن الحق مؤتلف الاجزاء ومتحد الاركان، لا يبطل حق حقا، ولا يكذب صدق صدقا، والباطل هو الذي ينافي الباطل وينافي الحق، انظر إلى مغزى قوله سبحانه وتعالى: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال) يونس - 32، فقد جعل الحق واحدا لا تفرق فيه ولا تشتت.
وانظر إلى قوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم) الانعام - 153.
فقد جعل الباطل متشتتا ومشتتا ومتفرقا و مفرقا.
وإذا كان الامر كذلك فلا يقع بين اجزاء الحق اختلاف بل نهاية الايتلاف، يجر بعضه إلى بعض، وينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض ويحكي بعضه البعض.
وهذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة ولا تعقم عن الانتاج، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثم الآية الثالثة تصدقها وتشهد بها، هذا شأنه وخاصته، وستري في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذا من ذلك، على ان الطريق متروك غير مسلوك ولو أن المفسرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة وخزائن من أثقاله النفيسة.
فقد اتضح بطلان الاشكال من الجهتين جميعا فإن أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتى يقال ان الانسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على ابلغ الكلام وأفصحه وهو واضح أو يقال ان ابلغ التركيبات المتصورة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعددة مختلفة السياق والجميع فائقة قدرة البشر بالغة حد الاعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن والخارج.
(معنى الآية المعجزة في القرآن وما يفسر به حقيقتها) ولا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة وتحققها بمعنى الامر الخارق للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادة لا بمعنى الامر المبطل لضرورة العقل.
وما تمحله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالة على ذلك توفيقا بينها وبين ما يترائى من ظواهر الابحاث الطبيعية (العلمية) اليوم تكلف مردود إليه.
والذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة وإعطاء حقيقتة نذكره في فصول من الكلام.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, يتبع ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,