بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
..... نتابع على بركة الله تفسير سورة البقره
ومما سبق ممكن أن يستنتج أن هذا المبدأ الموجود المنصور أمر وراء الطبيعة وفوق المادة.
فان الامور المادية مقدرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدرا وحدا عند التزاحم والمغالبة، والامور المجردة أيضا وان كانت كذلك إلا أنها لا تزاحم بينها ولا تمانع إلا ان تتعلق بالمادة بعض التعلق، وهذا المبدأ النفساني المجرد المنصور بإراده الله سبحانه إذا قابل مانعا ماديا إفاض إمدادا على السبب بما لا يقاومه سبب مادي يمنعه فافهم.
5 - القرآن كما يسند الخوارق إلى تأثير النفوس يسندها إلى أمر الله تعالى ثم ان الجملة الاخيرة من الاية السابقة في الفصل السابق أعني قوله تعالى: (فإذا جاء أمر الله قضي بالحق الآية،
تدل على ان تأثير هذا المقتضي يتوقف على أمر من الله تعالى يصاحب الاذن الذي كان يتوقف عليه ايضا فتأثير هذا المقتضى يتوقف على مصادفته الامر أو اتحاده معه.
وقد فسر الامر في قوله تعالى (انما امره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون) يس - 82، بكلمة الايجاد وقول: كن.
وقال تعالى: (ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤن إلا انشاء الله) الدهر - 29، 30 وقال: (ان هو إلا ذكر للعالمين.لمن شاء منكم ان يستقيم.وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين) التكوير - 27، 28، 29،
، دلت الآيات على ان الامر الذي للانسان أن يريده وبيده زمام اختياره لا يتحقق موجودا إلا أن يشاء الله ذلك بان يشاء أن يشاء الانسان ويريد إرادة الانسان فإن الآيات الشريفة في مقام أن أفعال الانسان الارادية وإن كانت بيد الانسان بإرادته لكن الارادة والمشية ليست بيد الانسان بل هي مستندة إلى مشية الله سبحانه، وليست في مقام بيان أن كل ما يريده الانسان فقد اراده الله فإنه خطأ فاحش ولازمه أن يتخلف الفعل عن إرادة الله سبحانه عند تخلفه عن إرادة الانسان، تعالى الله عن ذلك.
مع أنه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هديها) السجدة - 13.
وقوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الآرض كلهم جميعا) يونس - 99، إلى غير ذلك فإرادتنا ومشيئتنا إذا تحققت فينا فهي مرادة بإرادة الله ومشيتة لها وكذا افعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا ومشيتنا بالواسطة.
وهما أعني الارادة والفعل جميعا متوقفان على أمر الله سبحانه وكلمة كن.
فالامور جميعا سواء كانت عادية أو خارقة للعادة وسواء كان خارق العادة في جانب الخير والسعادة كالمعجزة والكرامة، أو في جانب الشر كالسحر والكهانة مستندة في تحققها إلى أسباب طبيعية، وهي مع ذلك متوقفة على ارادة الله، لا توجد إلا بأمر الله سبحانه أي بأن يصادف السبب أو يتحد مع أمر الله سبحانه.
وجميع الاشياء وإن كانت من حيث إستناد وجودها إلى الامر الالهي على حد سواء بحيث إذا تحقق الاذن والامر تحققت عن أسبابها، وإذا لم يتحقق الاذن والامر لم تتحقق، أي لم تتم السببية إلا أن قسما منها وهو المعجزة من الانبياء أو ما سأله عبد
ربه بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى وأمر عزيمة كما يدل عليه قوله: (كتب الله لاغلبن أنا ورسلي - الآية) المجادلة - 21، وقوله تعالى: (أجيب دعوة الداع إذا دعان الآية) البقرة - 186، وغير ذلك من الآيات المذكورة في الفصل السابق.
6 - القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب فقد تبين من الفصول السابقة من البحث أن المعجزة كسائر الامور الخارقة للعادة لا تفارق الاسباب العادية في الاحتياج إلى سبب طبيعي وان مع الجميع أسبابا باطنية وأن الفرق بينها أن الامور العادية ملازمة لاسباب ظاهرية تصاحبها الاسباب الحقيقية الطبيعية غالبا أو مع الاغلب ومع تلك الاسباب الحقيقية إرادة الله وأمره، والامور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر والكهانة مستندة إلى أسباب طبيعية مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقي بالاذن والارادة كإستجابة الدعاء ونحو ذلك من غير تحد يبتني عليه ظهور حق الدعوة وأن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعي حقيقي بإذن الله وأمره إذا كان هناك تحد يبتنى عليه صحة النبوة والرسالة والدعوة إلى الله تعالى وأن القسمين الآخرين يفارقان سائر الاقسام في أن سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قط بخلاف سائر المسببات.
فان قلت: فعلى هذا لو فرضنا الاحاطة والبلوغ إلى السبب الطبيعي الذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الاتيان لغير النبي أيضا ولم يبق فرق بين المعجزة وغيرها إلا بحسب النسبة والاضافه فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين، وهم المطلعون على سببها الطبيعي الحقيقي، وفي عصر دون عصر، وهو عصر العلم، فلو ظفر البحث العلمي على الاسباب الحقيقية الطبيعية القصوى لم يبق مورد للمعجزة ولم تكشف المعجزة عن الحق.
ونتيجه هذا البحث أن المعجزة لا حجية فيها إلا على الجاهل بالسبب فليست حجة في نفسها.
قلت: كلا فليست المعجزة معجزة من حيث أنها مستندة إلى سبب طبيعي مجهول حتى تنسلخ عن إسمها عند إرتفاع الجهل وتسقط عن الحجية، ولا أنها معجزة من حيث إستنادها إلى سبب مفارق للعادة، بل هي معجزة من حيث أنها مستندة
إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتة، وذلك كما ان الامر الحادث من جهة إستجابة الدعاء كرامة من حيث إستنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنه يمكن ان يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنه حينئذ أمر عادي يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه.
7 - القرآن يعد المعجزة برهانا على صحة الرسالة لا دليلا عاميا وهيهنا سؤال وهو أنه ما هي الرابطة بين المعجزة وبين حقية دعوى الرسالة مع أن العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه وبين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أن الظاهر من القرآن الشريف، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدة من الانبياء كهود وصالح وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنهم على ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سئلوا عن آية تدل على حقية دعوتهم فأجابوهم فيما سئلوا وجاءوا بالآيات.
وربما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى في موسى (عليه السلام) وهارون (إذهب أنت واخوك بآياتي ولا تنيا في ذكرى) طه - 42، وقال تعالى في عيسى (عليه السلام): (ورسولا إلى بنى إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا باذن الله وأبرى الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) آل عمران - 49، وكذا إعطاء القرآن معجزة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقية ما أتى به الانبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم.
مضافا إلى أن قيام البراهين الساطعة على هذه الاصول الحقة يغنى العالم البصير بها عن النظر في أمرالاعجاز، ولذا قيل إن المعجزات لاقناع نفوس العامة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقلية وأما الخاصة فإنهم في غنى عن ذلك.
والجواب عن هذا السؤال أن الانبياء والرسل (عليهم السلام) لم يأتوا بالآيات المعجزة لاثبات شئ من معارف المبدأ والمعاد مما يناله العقل كالتوحيد والبعث وأمثالها
وإنما اكتفوا في ذلك بحجة للعقل والمخاطبة من طريق النظر والاستدلال كقوله تعالى: (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والارض): إبراهيم - 10 في الاحتجاج على التوحيد قوله تعالى: (ما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار) ص - 28 في الاحتجاج على البعث.
وانما سئل الرسل المعجزة وأتوابها لاثبات رسالتهم وتحقيق دعويها.
وذلك أنهم ادعوا الرسالة من الله بالوحى وأنه بتكليم إلهي أو نزول ملك ونحو ذلك وهذا شئ خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الادراكات الظاهرة والباطنة التي يعرفها عامة الناس ويجدونها من أنفسهم، بل إدراك مستور عن عامة النفوس لو صح وجوده لكان تصرفا خاصا من ما وراء الطبيعة في نفوس الانبياء فقط، مع أن الانبياء كغيرهم من افراد الناس في البشرية وقواها، ولذلك صادفوا إنكارا شديدا من الناس ومقاومة عنيفة في رده على أحد وجهين: فتارة حاول الناس إبطال دعويهم بالحجة كقوله تعالى: (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آبائنا) إبراهيم - 102، إستدلوا فيها على بطلان دعويهم الرسالة بأنهم مثل سائر الناس والناس لا يجدون شيئا مما يدعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة، ولو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع هذا، ولهذا اجاب الرسل عن حجتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: (قالت لهم رسلهم ان نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) إبراهيم - 13، فردوا عليهم بتسليم المماثلة وان الرسالة من منن الله الخاصة، والاختصاص ببعض النعم الخاصة لا ينافي المماثلة فللناس إختصاصات، نعم لو شاء أن يمتن على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوة مختصة بالبعض وإن جاز على الكل.
ونظير هذا الاحتجاج قولهم في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما حكاه الله تعالى: (أأنزل عليه الذكر من بيننا) ص - 8، وقولهم كما حكاه الله: (لو لا انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) الزخرف - 31.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, يتبع ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,